منظمة التعاون الإسلامي
الصوت الجامع للعالم الإسلامي

كلمة معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلى الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أمام الدورة الخامسة والسبعين لمجمع اللغة العربية تحت عنوان "مستقبل اللغة العربية "

التاريخ: 20/03/2012

القاهرة – جمهورية مصر العربية 19 مارس 2012م       أصحاب المعالي والسعادة، حضرات الأساتذة الكرام، أيتها السيدات والسادة،   ​السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ​يسعدني أن أكون معكم مرة أخرى في رحاب هذا المجمع العلمي العتيد الذي يخدم ويعنى بشأن عزيز علينا جميعا، ألا وهي لغتنا العربية التي تعتبر معجزة الله في كتابه المجيد، والتي هي حاضنة الثقافة التي تجمع شتات الأمة الإسلامية، وتربط بين عالم الأجسام وعالم الأذهان. وقبل أن استرسل في كلمتي هذه رأيت أن من الوفاء والواجب أن أقف في هذا المقام لأترحّم على أستاذنا الجليل الدكتور محمود حافظ رئيس مجمع اللغة الغربية الأسبق ورئيس المجمع العلمي المصري الذي وافته المنيّة قبل بضعة أشهر، إذ اختاره الله إلى رحاب رحمته، وظلال عفوه ومغفرته. ​كما آلمني كثيرا فراق أستاذي وقرت عيني الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد الذي وافاه الأجل المحتوم قبل عدة أسابيع والذي جمعتني به علاقة ودّ وصداقة خالصة، وعرفت فيه شخصية العالم الكبير، الذي تميز بكرم الأخلاق، وسمو الصفات، كما كان أستاذي الذي أكنّ له كل الحب والوفاء. وأعادني خبر وفاته إلى ذكريات عزيزة جمعتنا سوية في الزمن الجميل في مصر وغيرها، حيث دامت صداقتنا مدة طويلة. وكان، رحمه الله، بالنسبة لي الأخ الكبير والصديق الحميم الذي أتزيّن بإخائه، بل والأب الروحي لي (كما وصفت ذلك صحيفة الأهرام لدى تأبينه). وما زلت أسترجع ذكراه بقلب حزين وباعتزاز وتقدير بالغين، لِما أودع الله فيه من علم راسخ وحكمة واسعة، ولِما عُرِفَ به من محتد زكيّ. ولا شك في أنه سيطول تلفتنا إليه وإلى علمه وأدبه، وسيتمادى تلهفنا على فراقه. ولا يسعنا إلا أن ندعو الله أن يتولاّه بواسع الرحمة والمغفرة. ​وأنتهز هذه الفرصة لكي أحيي صديقي أيام الشباب الدكتور حسن محمود الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية، وهو العالم الكبير الذي أتحف الفكر العربي والإسلامي في مناحٍ عديدة، وها هو اليوم يتسلم لواء مجمع الخالدين. حضرات السادة الأفاضل، تواجه العالم العربي اليوم مشكلة تثير جدلا بشأن تدريس العلوم الحديثة باللغة العربية. فطائفة تلح على ضرورة تلقينها باللغة العربية، مصرّة على أن ذلك تفرضه ضرورة النهوض بالفرد العربي، وتأصيل ثقافته بكل تشعباتها التي تستلزمها هويته الوطنية أو القومية. ​ويُحاجّ أفراد هذه الطائفة بأن العربية  قد مرّت بتجارب سابقة، وواجهت حضارات مختلفة ذات أصول عريقة، فتميزت عن اللغات الأخرى وكُتب لها رهان السبق، فوفت بالعلوم المختلفة التي كانت عند الإغريق وغيرهم، واستوعبتها بلغة عربية أصيلة. ​وتذهب الطائفة الأخرى إلى أنه لا يمكن للغة العربية اليوم الوفاء بالمتطلبات الكثيرة في عالم المستجدات اللغوية والمصطلحية التي تتجاوز خمسة آلاف مستجد كل عام، وأن من الأفضل أخذ الكلمات الحديثة كما جاءت في اللغات الأجنبية، وإدراجها كما هي في اللغة العربية. ​قد لا يكون من الضروري أن يعطى لكل جديد تأتي به الحضارة المعاصرة مفردة عربية محضة، خصوصا إذا كانت الكلمة الأجنبية قد عمّت وانتشرت، ولا بأس في أن تكون المصطلحات العلمية المستعملة في العالم العربي منسجمة مع المشهور المتعارف عليه في الدول المتقدمة أو في العالم. ​ولا عيب أيضا في أن تجاز المصطلحات المنسجمة مع أبنية ألفاظ اللغة العربية ولا تجرح شيئاً من أصولها وأبنيتها – كما سبق أن فعل المسلمون الأوائل. كما أن من المفيد أن يصار إلى الاستفادة من المصطلحات التي لجأ إليها أهل الحاجة من أصحاب الاختصاصات إذا ما صارت هذه المصطلحات شائعة متداولة، وقد أحسنت المجامع في اتباع هذا النهج في المصطلحات العامية التي تعارف عليها أهل الحِرَف والصناعات في عدة أقطار عربية. حضرات السادة الأفاضل، ​إننا نتمنّى من كل قلوبنا أن يكون مستقبل اللغة العربية كما كان ماضيها، وأن نعمل جادين من أجل الوصول إلى هذا الهدف. فقد تطورت هذه اللغة من لغة بدائية للقبائل العربية في الجزيرة العربية في عصر الجاهلية، وكانت تقتصر على أغراض محددة من الشعر والفصاحة والأدب، إلى لغة الوحي السماوي الذي أضاء بنوره العالم على مدى خمسة عشر قرنا، وما لبث أن أضحت العربية لغة العلم والفلسفة والأدب في فترة وجيزة تبعت ظهور الإسلام وانتشاره. وما هي إلا سنوات قليلة بعد ذلك حتى أضحت اللغة العربية لغة عالمية دولية ثمّ كونية. وقد ترافق هذا مع انحسار شأن اللغات الأخرى كالمصرية والبابلية والأكادية وغيرها، فيما عدا اليونانية التي انتشرت انتشار محدودا في مجال البحر المتوسط، بينما بقيت اللغات الأخرى لغات محلية ، وساهم في انتشار اللغة العربية والعلوم انتشارا واسعا، استعمال المسلمين للورق الذي جلبوه من أواسط آسيا إلى بغداد، فساعد كثيرا على انتشار الكتابة والكتب بسهولة ويسر. ويضاهي هذا التطور في قيمته العملية اكتشاف المطبعة التي تم تطويرها في أوروبا والتي ساعدت على انتشار الكتب بسهولة ويسر. وهكذا كان انتشار اللغة العربية والمعارف المختلفة التي تناولتها بالدراسة والبحث والتطوير واستخدام الورق عوامل هامة آذنت بجعل اللغة العربية لغة كونية معاصرة. ​ولا توجد لغة غربية واحدة لم تتأثر باللغة العربية او احتوت على كلمات عربية. واللغة العربية كذلك هي اللغة القومية لما يقارب نصف مليار عربي، كما أنها لغة الثقافة والفكر والعقيدة لقرابة مليار ونصف مليار مسلم عبر العالم. ​ومما ساعد على سرعة انتشارها المذهلة أنها كانت لغة الدين، ولغة الحضارة، إضافة إلى كونها لغة السياسة والتجارة والعلوم والفكر لعدة قرون، كما كان لها أثر واضح نافذ في العديد من اللغات، وفي طليعتها اللغتان الفارسية والتركية اللتان استوعبتا معظم القاموس العربي، ولغات أخرى مثل الأمازيغية والكردية والأوردو والماليزية والاندونيسية والبوشناقية والألبانية والهوسا، والسواحيلية والأمهرية والاسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية. وتعتبر اللغة العربية لغة رسمية في كل من تشاد وارتيريا وغيرها، إضافة إلى أنها أحدى اللغات الرسمية في منظمة الأمم المتحدة. ​ومما يدلّ على ثبات اللغة العربية، وقوة أصولها وتميزها عن اللغات الأخرى، أنها قد تكون اللغة الوحيدة في العالم التي  يستطيع أبناؤها قراءة الآداب والأشعار والكتب التي كتبها آباؤهم قبل خمسة عشر قرنا بسهولة ويسر لا تتوفر في أية لغة أخرى، مع تباعد المدة الزمنية الفاصلة بينهما. حضرات السيدات والسادة، ​بعد كل هذا العطاء والتميّز والتألق، أجدني أرثي لمن يريدون التخلّي عن اللغة العربية بالتستر وراء ما يزعمونه من قصورها عن استيعاب المفردات التي تفرزها الحضارة الحديثة من مستجدات في ميادين عديدة. ويقوم هذا الجدل في وقت قامت فيه إسرائيل مثلا بإحياء لغتها التي كادت أن تندثر، ثم أعيد إحياؤها في القرن الماضي، وها هي اليوم لها لغة حية بفضل ما استفاد منه المختصون الإسرائيليون من التقنيات الحديثة والمراجع القديمة وفي طليعتها اللغة العربية. ومن المعروف أن اليهود يعترفون بأنهم مدينون كثيرا للغة العربية في مجال فهم كثير من مفردات لغتهم، وخصوصا في مجال دراسة كتبهم الدينية. ​يقـول المستشـرق البريـطاني المعــروف نيكولسـون فـي كـتاب "The Legacy of Islam" : لم تكن اللغة العبرية، حين كانت في أوجها، قادرة على منافسة اللغة العربية في مرونتها المذهلة، إذ استطاعت اللغة العربية من خلال مواردها الذاتية أن تستخدم عمليات ذاتية خاصة بها لكي تجد الكلمة المناسبة، التي يقتضيها التعبير عن العلوم والآداب الجديدة، "ويضف نيكولسون": فاللغة العربية مؤهلة أكثر من غيرها من اللغات للتعبير بقدر أكبر من الإيجاز بفعل السلاسة والمرونة غير العادية التي يتسم بها الفعل والاسم فيها. ويضرب على هذا مثلاً الجذر الثلاثي لفعل دَوَرَ، والذي يعني في أبسط صيغة الدوران، وكيف يمكن أن نستخرج من هذا الجدار كلمات عديدة مثل: دوّر، دوار، أدار، تـدوّر، استدار، دور، دورة، دوران، دُوار، مدار، دوّارة، مدير، دوّار، دائري.. إلخ وسيدرك المرء أن هذه الفروق الدقيقة الكثيرة تبيح لكثير من الأسماء والأفعال في اللغة العربية أن تعبر عن أشياء عديدة. وليست أيٌ من هذه الصيغ وليد الصدفة، بل تحددها مسبقا ما تتسم به اللغة العربية من عبقرية في معناها". ​وهناك اسهامات عديدة قدّمها اللسان العربي للغات الأوروبية التي تقبلتها كما هي، والناظر إلى كتب علم الفلك والنجوم في الغرب على سبيل المثال، سيرى كيف كتب الفلكيون المسلمون على صفحة السماء أسماء النجوم والمجرات باللغة العربية الصرفة، فدخلت هذه الأسماء مجال العالمية إلى اليوم، إذ انتشرت هذه المسميات العربية إلى جميع اللغات. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: آخر النهر Achernar ، العذراءAdhara ، الخباء Alchiba ، الدبران Aldebaran ، الجـدي Giedi ، الغـول Algol ، الغراب Algorab ... إلخ ​ولننظر أيضا إلى ما فعل الأطباء في الغرب مثلا بكلمة "صداع" التي كانت في يوم من الأيام تقع في مقدمة المجلّد الثالث من كتاب "القانون في الطب" لابن سيناء في الفصل المعنـون "كلام كلّي في الصداع". وقد تُرجم هذا العنوان إلى اللاتينية كالتالي: "Sermo Universalis de Soda" ومصدر كلمة SODA تبدو غريبة عن اللاتينية وهو فعل "صدع" أو "شق" مما يدل على تغلغل المفردات العلمية العربية إلى اللغات الأوروبية وفي طليعتها اللاتينية وهي اللغة الأم. حضرات السيدات والسادة، ​إن ما نحتاج إليه بإلحاح في هذا الوقت هو التعريب والترجمة لاستيعاب المفردات والكلمات التي تفرزها الحياة المعاصرة وظاهرة العولمة. والتعريب مصطلح قديم، وهو غير الترجمة، ويعني أخذ الكلمة الأجنبية وضمها إلى اللغة العربية، واصطلحوا على أن تؤخذ الكلمة كما هي في لغتها الأجنبية إن كان وزنها يوافق وزنا من أوزان العربية، أو أن أصواتها تشبه الأصوات العربية. فإن لم يكن ذلك ممكنا يصار إلى تغيير الوزن الأجنبي للكلمة ليكون موافقا للأوزان العربية مع الإبدال أحيانا بشيء من حروفها بحروف عربية. وقد تم بهذه الصنعة توفير العديد من الكلمات الجديدة المعرّبة. كما وقع في تغيير "الدراخما" اليونانية إلى درهم، والدينار، والموسيقى والفردوس والجغرافيا وغير ذلك. ​وقد سبق العرب غيرهم من الأمم في توفير المصطلح العلمي. وكان لهم في "علم المصطلح" طرقهم الخاصة وتقاليدهم. وقد ترك لنا السلف من تلك المصطلحات الكثير الذي يتوزع في معظم شعاب المعرفة ووضعت لذلك معجمات خاصة بكل علم من العلوم. واستطاع العرب أن يجدوا في لغتهم وسائل مفيدة في تطوير المصطلح منذ ظهور الإسلام بما سمح للغة العربية آنذاك بأن تتحول إلى لغة علمية حفلت بكل ما يقتضيه العلم من مصطلحات. وليس أدل على ذلك من أن غير العرب من العلماء المسلمين اتخذوا العربية لغة لهم، وكتبوا بها مصنفاتهم العلمية، حتى اعتبرهم كثير من الناس من علماء العرب. ​ومن هنا كان لزاماً علينا أن نستفيد من تراثنا باستخلاص المواد النافعة، ونستدرك بها ما فاتنا، لأن الحضارة المعاصرة والعولمة قد ألقت علينا أعباء كثيرة لإيجاد كلمات للعديد من المصطلحات التي علينا أن نبتكرها لنواجه الحضارة الحديثة عن طريق الإفادة من الموروث المختزن الذي يقوم على استعمال طاقة اللغة العربية، ثم من الترجمة، ثم من التعريب. وإن تعذّر ذلك يصار إلى ابتكار المصطلح ابتكارا جديدا، كما يفعل الغربيون، كأن يُتخذ من اسم عالم أو مخترع مثلا اسماً يدل على الآلة التي ابتكرها أو الوسيلة التي اتخذها لعمل شيء ما. ​وخلاصة القول في ذلك إن اللغة العربية عاشت منذ مولدها ظروفاً متغيرة وحقباً متفاوتة في القوة والجمال والوفرة والتفتح والجمود والثراء والصمود وغير ذلك. وإذا كانت اللغة العربية قد عمّرت طوال هذه الحقب بسبب عوامل دينية أو اجتماعية، فإن الواقع يشير إلى أن قدرتها على التوسع والاستيعاب في مفرداتها العددية ترجع في الأساس إلى عبقرية أصلها ومزاياها، كما أن فضائلها القيمية تعود إلى مقدرتها في الوصول إلى الكمال، والحفاظ على ثوابتها الأساسية. ​والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بيانات أخرى

No press releases assigned to this case yet.

مؤتمر بالفيديو لبحث آثار جائحة كورونا على جامعات منظمة التعاون الإسلامي


صندوق التضامن الإسلامي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي يسلم الدفعة الأولى من الدول الأعضاء الأقل نموا منحة مالية عاجلة لمواجهة تداعيات كورونا


العثيمين: وكالات الأنباء في دول "التعاون الإسلامي" تدحض الأخبار الزائفة في جائحة كورونا


مواصلة لجهود المنظمة في مواجهة جائحة كورونا المستجد صندوق التضامن الإسلامي يشرع في إجراءات تقديم منحة مالية عاجلة للدول الأعضاء الأقل نموا


البيان الختامي للاجتماع الطارئ الافتراضي للجنة التنفيذية لمنظمة التعاون الإسلامي المعقود على مستوى وزراء الخارجية حول الآثار المترتبة عن جائحة مرض كورونا المستجد (كوفيد-19) والاستجابة المشتركة لها


وزراء خارجية اللجنة التنفيذية: تعزيز الإجراءات الوطنية لدول "التعاون الإسلامي" للتخفيف من وطأة تداعيات وباء كورونا المستجد


مجمع الفقه التابع لمنظمة التعاون الإسلامي يصدر توصيات ندوة "فيروس كورونا المستجد وما يتعلق به من معالجات طبية وأحكام شرعية"


منظمة التعاون الإسلامي ترفض استهداف المسلمين من طرف بعض الأوساط في الهند في ظل ازمة جائحة كورونا


العثيمين يدعو إلى اللجوء لأحكام فقه النوازل وحفظ النفس في محاربة وباء كورونا المستجد


العثيمين يخاطب ندوة مجمع الفقه الإسلامي الدولي حول الأحكام المتعلقة بانتشار جائحة كورونا


البيان الصادر عن الاجتماع الطارئ للجنة التوجيهية لمنظمة التعاون الإسلامي المعنية بالصحة بشأن جائحة كورونا


العثيمين يدعو الاجتماع الافتراضي بشأن كورونا المستجد للعمل الجماعي في مواجهة الجائحة


كتاب اليوبيل الذهبي لمنظمة التعاون الإسلامي

المؤتمر الدولي للعلماء المسلمين حول السلم والأمن في أفغانستان