منظمة التعاون الإسلامي
الصوت الجامع للعالم الإسلامي

محاضرة معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلى الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي حول موضوع "بناء الجسور: حوار الثقافات والهويات والهجرة"

التاريخ: 16/09/2010

قاعة الاجتماعات قصر الأمم التابع للأمم المتحدة جنيف 16 سبتمبر 2010 السيد رئيس الجلسة، أصحاب المعالي والسعادة، حضرات المشاركين، حضرات السيدات والسادة، اسمحوا لي في البدء أن أعرب عن صادق شكري وتقديري لوكيل الأمين العام والمدير العام لمكتب الأمم المتحدة في جنيف، السيد سيرجي أُردزُنيكز والسيد كارلوس لوبيز، المدير التنفيذي لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحوث لدعوتي للمشاركة في هذه الجلسة الموقرة. إن سلسلة محاضرات جنيف مرتكز فريد لتقديم خطاب ثري ومُحفِّز عن تحديات عالمية معقدة وملحة بقصد وضع نهوج بناءة لإيجاد حلول لها في إطار الروح الحقة للعمل المتعدد الأطراف. وقد وصفت هذه السلسلة، عن حق، بأنها مرتكز فكري لعمل الأمم المتحدة وآلية لتوجيه التفكير والبحث الحاليين نحو عملية صنع القرار. وإنني لأفخر بكوني من المتحدثين في الدورة الخامسة من هذه السلسلة بمعية كاتب بارز ذي شهرة عالمية هو السيد كارلوس فوينتيس. موضوع نقاشنا اليوم هو حوار الثقافات والهويات والهجرة. وترتبط حتمية بناء الجسور بالتقارب الثقافي. من أجل ذلك، من المناسب أن تنخرط مداولاتنا في إطار السنة الدولية للتقارب الثقافي التي تخلد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 90/62. سأتطرق في هذا العرض بصورة أساسية إلى هذا الموضوع المتعدد الجوانب في ضوء تجربتي ودوري بصفتي أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي يبلغ عدد دولها الأعضاء سبعاً وخمسين، والتي تطورت على مدى العقود الأربعة الماضية لتصبح ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة. ونحن اليوم بصدد تنفيذ برنامج العمل العشري. وهو نتاج لرؤية "الوسطية والحداثة"، يحدد مجالات العمل ذات الأولوية ويعطي الأولوية للعمل المتعدد الأطراف وحقوق الإنسان والدبلوماسية الثقافية وهي بنود رئيسية على جدول أعمال منظمة المؤتمر الإسلامي. وتلكم مجالات جميعها ذات صلة بنقاش اليوم. لذلك، سأشاطركم بضعة أفكار وأنا على ثقة بأنها ستولد نقاشاً حياً في هذه المحفل المرموق. حضرات المشاركين الموقرين، يبقى القول القديم المأثور بأن "الإنسان ليس جزيرة" صحيحاً اليوم مثلما كان بالأمس. فكل إنسان يمتلك بعض الخصائص الأساسية للهوية من قبيل الاسم والأصل والانتماء الأسري والانتماء الثقافي والديني. وعلى الرغم من الاختلافات من حيث البنية الجسمانية والانتماء الثقافي والعرقي للبشر من أصول جغرافية وثقافية متنوعة، فإن كيمياء البقاء هي ذاتها كما تحددها الطبيعة. غير أن ما ينفرد به بنو البشر عن سائر المخلوقات هو أنهم لا يستطيعون العيش في عزلة. ذلك أن كل واحد منا جُبل على السعي إلى نسج علاقات مع غيره من بني البشر. وعن هذه السيرورة نتجت مؤسسات الأسرة والقبيلة والمجتمع والقرية والمدينة والدولة. إن سعي الإنسان الحثيثَ إلى تجاوز حدود ما يحيط به والوصول إلى عالم أوسع أمر ثابت على مر الزمان. فقد ساهمت هجرة الناس في الأرض بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية أو لضغوط اقتصادية أو لا لشيء آخر سوى تلبية رغبة ملحة في الانتقال إلى حضارة أخرى، ساهمت في حدوث تداخل بين الثقافات والحضارات. وهذا التنوع في الثقافات والحضارات والمعتقدات أثرى الوجود الإنساني بفعل ما نسجناه من علاقات وما تعلمه بعضنا من بعض وما تشاطرنا وما استفدنا. وهذا الأمر صحيح بالنسبة لتشكيل صورة عالم اليوم المتسم بالتنوع. بيد أن الهجرة لم تكن في يوم من الأيام عملية بسيطة. ذلك أن المهاجرين عليهم أن يكيفوا أنفسهم مع نمط حياة جديد غريب عنهم ولم يعتادوا عليه. فيما اتُّهمت المجتمعات المستقبلة لهؤلاء المهاجرين بقبول أناس مختلفين. وقد كان التحدي الذي يفرض نفسه دائماً على الفئتين هو تحدي التفاعل والوئام. صحيح أنه لم يكن سهل التحقق لكنه كان يتحقق متى ما تغلبت الميزة المتأصلة للعلاقات الإنسانية على المعيقات من خلال الحوار والتفاهم وتقدير كل طرف للآخر. ولئن كان من المحتم على المهاجرين الاندماج في بيئتهم الجديدة، فإنه ما كان ليتوقع منهم أن ينسلخوا عن هويتهم باعتبارهم ذوي انتماء ثقافي وديني. فالهوية أمر أساسي للإنسان، إذ تشكل عنصراً ذا شأن من عناصر الشخصية والقيمة الذاتية. فهي التي تمنح المرتكز البالغ الأهمية والجذر والشعور بالانتماء. وهي التي تساعد على تحديد الحاضر وتقود نحو المستقبل. فالانتماء إلى ثقافة وحضارة يمد الفرد بالثقة في النفس والثقة في صحبة أناس ذوي تفكير مختلف وذوق مختلف. ومن هذا النبع خرج معظم القيم الإنسانية النبيلة على امتداد العصور. فكل مجتمع يمجد تراثه ويحترم في الوقت ذاته تراث المجتمعات الأخرى وثقافاتها. وبذلك يتحقق التعايش السلمي ويُصَان التنوع الثقافي ويُعزَّز التفاعل بين بني البشر. لقد تبلورت القيم الإنسانية عبر القرون فخضعت لسيرورة طويلة من التهذيب والتنقية حتى تشكلت القيم الكونية المعاصرة المضمنة في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وفي طائفة كبيرة من المعاهدات والعهود والاتفاقيات. ومن أبرز هذه القيم الأخذ بالتنوع الثقافي والتسامح. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات المشاركين الموقرين، إن أي نقاش للمواضيع المتداخلة المتصلة بالهجرة والهوية والحاجة إلى الحوار بين الثقافات ينبغي أن يوضع في سياق العولمة التي تُعد السمة الغالبة لعصرنا هذا. قد تكون العولمة أيديولوجية حبلى بالوعود، لكن الكيفية التي ظهرت بها إلى الوجود إلى حد الآن كذَّبت، أقله في نظر العالم النامي الذي تنتمي إليه معظم دول منظمة المؤتمر الإسلامي، توقعات الأيديولوجيين. فقد أفرزت قوة الدفع الهائلة للعولمة موجة عارمة من الهجرة. وينبغي التنويه إلى أن معظم الهجرات التي تحدث في عالمنا اليوم لها دوافع اقتصادية بطبيعتها يحفزها الترابط الحاصل في عصرنا هذا. فالمسار غير المتكافئ الذي ظلت العولمة تتبعه على مدى العقدين الماضيين أفرز اختلالات عميقة في النظم النقدية والمالية والتجارية الدولية. وإن حالات الهجرة في عصرنا هذا مردها إلى هذه الاختلالات. لذلك، قد يكون من المهم أن نحلل ما وُصف بـ "عصر الحركة" وأن نعالج انعكاساته الواسعة النطاق. وبعبارة أدق، يتجه تيار الهجرة البشرية اليوم بصورة غالبة من العالم النامي إلى بلدان الغرب الأغنى. وقد رحبت العديد من الحكومات الغربية بالمهاجرين إذ أثبتوا أنهم جديرون بالمساهمة في اقتصادات البلدان المستقبلة ولاعتبارات أخرى تخص تلك البلدان. غير أننا نلاحظ في السنين الأخيرة بقلق نفوراً متزايداً من المهاجرين، إذ يُعانون في أجزاء شتى من العالم من التمييز ويُحرمون من الكثير من حقوقهم الأساسية ومنها الحقوق الثقافية. وأود أن أقول آسفاً إن الوطأة الشديدة لهذا التمييز يشعر بها المسلمون في المجتمعات الأوروبية وفي غيرها من المجتمعات الغربية. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات المشاركين الموقرين، بما أننا نناقش هذه المسألة المهمة في مدينة جنيف، عاصمة العمل المتعدد الأطراف الواقعة في وسط أوروبا، أود في عرضي هذا أن أركز تركيزاً مقصوداً على وضع المهاجرين المسلمين في القارة الأوروبية. فتلكم مسألة من أشد المسائل تعقيداً فيما يتصل بوضع المهاجرين مع ما يصاحبها من تعقيدات على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وقد يفهم أن هذا الوضع يحفل بكل ما سبق ذكره من تعقيدات، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال تصنيفه باعتباره أمراً مستجداً. فمجيء المسلمين إلى أوروبا يعود إلى القرن الثامن. ويروي التاريخ أن الإسلام كان ديناً متأصلاً في أوروبا لقرون طويلة. وفي إسبانيا وجد اليهود والمسيحيون منذ القرن الثامن أن العلاقة مع الإسلام منحتهم نظرة جديدة إلى تقاليدهم الدينية. وبمجيء الإسلام إلى أوروبا جاء العلماء المسلمون الذين كانت لهم الريادة في شتى العلوم. وقد ساهمت معارفهم واكتشافاتهم واختراعاتهم وعملهم الأكاديمي في تحديث أوروبا. ومن إسبانيا إلى تركيا قدموا إسهامات ناصعة في مجالات الفنون والعلوم والثقافة. ويجب التشديد على أن معظم هذه الإسهامات اللامعة تمت في ما يعرف في تاريخ أوروبا بعصر الظلمات. ولذلك ينبغي التأكيد على أن هجرة المسلمين واستقرارهم فيما بعد في أوروبا قد ساهم عبر التاريخ إسهاماً إيجابياً وساعد على بلورة الهوية الأوروبية كما هي اليوم. لقد أنتجت التقاليد الإسلامية، على مدى القرون الثمانية من الوجود الإسلامي في الأندلس، مزيجاً فريداً من التدين وثقافة قوامها التسامح، وحرية علمية لم يكن لأوروبا عهدٌ بها في ذلك الزمان. وهذا الأمر كان له دور أساسي في وضع أوروبا على الطريق الذي سلكته نحو النزعة الإنسانية والنهضة. ومما يبعث على الأسف أن هذا المثال الذي ضربته الأندلس في التسامح لم يدم عبر تاريخ أوروبا، لكنه بقي حاضراً في أجزاء أخرى من القارة الأوروبية، ولاسيما في البلقان في ظل حكم العثمانيين. لقد كان الإسلام ديناً متأصلاً في جنوب شرق أوروبا لستة قرون بتقاليد متجذرة وستة قرون من الذكريات السارة. إن سكان أوروبا في غاية التنوع ولهم تواريخ وأصول متنوعة. واليوم، يعتبر المسلمون أغلبية في دول أوروبية هي ألبانيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك وفي بعض المناطق الروسية في شمال القوقاز ومنطقة الفولغا. أما التقاليد الدينية لمسلمي أوروبا فترقى إلى عدة مئات من السنين. ويتألف السكان المسلمون في أوروبا الغربية أساساً من المهاجرين الذي وصلوا إلى القارة الأوروبية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي في العقد الخامس من القرن العشرين وما بعده. واسمحوا لي بأن أُذكِّر ببعض الإحصائيات الهامة. قدرت المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة أن ما بين 39% و70% من الألبان الذين يعيشون في ألبانيا مسلمون، وأن 91% منهم يوجدون في كوسوفو، وأن 99% من الألبان الذين يعيشون في مقدونيا مسلمون. والبوسنة والهرسك فيها أغلبية من المسلمين، وفي تركيا 99%، وفي أذربيجان 93%، وفي كازخستان 57% من السكان مسلمون. كما يشكل المسلمون ما يقرب من خمس سكان الجبل الأسود (مونتينيغرو). استقر المسلمون في أوروبا الغربية بصورة كبيرة في المناطق الحضرية. وتبلغ نسبة المسلمين في بعض المدن الأوروبية 25% في روتردام (هولندا)، و24% في أمستردام (هولندا)، و20% في مرسيليا (فرنسا)، و17% في بروكسل (بلجيكا)، و16% في برادفورد (المملكة المتحدة)، فيما تبلغ نسبتهم 10% في بعض المدن المهمة الأخرى مثل باريس ولندن وكوبنهاجن. وتتوقع بعض التقديرات أن يتضاعف عدد السكان المسلمين في أوروبا بحلول عام 2020. وترجع نسبة 85% من المعدل العام لنمو السكان في أوروبا إلى الهجرة بصفة عامة. وقد قُدِّر عدد السكان المسلمين في أوروبا عام 2009 بأكثر بقليل من 38 مليون نسمة، أي ما نسبته 5.2% من مجموع عدد سكان أوروبا. لقد بات المسلمون في أوروبا وفي أجزاء أخرى من العالم الغربي، للأسف، محط الشبهات بسبب حملة أطلقها عدد من الأفراد والجماعات التي يبدو أنها تحمل ضغينة غير مفهومة تجاه المسلمين والإسلام. وينظر اليوم إلى مسلمي أوروبا الذين عاشوا لقرون في سلم وتناغم مع الجماعات الأخرى بأنهم دخلاء. ويتعرضون لبعض الضغوط ليتخلوا عن بعض سماتهم الثقافية وممارساتهم بدعوى أنها لا تتفق مع العادات والممارسات المحلية، فنجم عن ذلك هوة متنامية. ويُنذر التوتر الحالي في العلاقات بين الإسلام والغرب بتحقق نبوءة صدام الحضارات. ويبدو أن الإسلاموفوبيا والتمييز ضد المسلمين في الغرب ينبعان من المظهر المختلف للمسلمين وانعدام التسامح مع دينهم ومعتقداتهم الثقافية. ولا أفهم لماذا يُنظر اليوم، في إطار السياق التاريخي المذكور، إلى هجرة المسلمين إلى أوروبا وإلى جهات أخرى في الغرب باعتبارها تهديداً. ولماذا يُعدون دخلاء؟ ولماذا يُساء إلى رموز هويتهم؟ ولماذا يُحال بينهم وبين التعبير عن هويتهم؟ إن الوضع في الواقع مؤسف ويفرض تحديات على هوية المسلمين المهاجرين. كما يتحدى السمات البارزة للهوية الأوروبية، بما فيها التسامح وعدم التمييز واحترام حقوق الإنسان. والأهم من ذلك أنه يُعد خطراً واضحاً ومباشراً على السلم والأمن والاستقرار على المستوى الإقليمي والعالمي. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إن أفضع خطإ يرتكب في ظل الوضع الذي استرعيت انتباهكم إليه هو أنه بدلاً من البحث عن القواسم المشتركة والتركيز على القيم المشتركة وتشاطر الخبرات، يتم تعزيز الهويات وحمايتها على أساس الاختلافات. وهذا في الواقع يتناقض مع جوهر العولمة ومنطقها. فمن الأساسي في عصر العولمة الذي نعيش فيه أن يتم القبول بقضايا التنوع الثقافي والديني باعتبارها حقيقة من حقائق العالم الجديد. وينبغي أن ينظر إليها باعتبارها أداة من أدوات القوة والتقارب بين البلدان والثقافات الهدف منها الوصول إلى توافق في الآراء بشأن مجموعة القيم اللازمة لدعم المجتمع الكوني. من أجل ذلك، ينبغي أن يرمي حوار الديانات إلى تحقيق "عولمة أخلاقية" تحتفظ فيها كل ثقافة بوحدتها وتسهم في الوقت ذاته في خلق بشرية ينظر إليها باعتبارها أسرة واحدة كبيرة تشترك في التعايش والاحترام المتبادل. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، تعد الإسلاموفوبيا مظهراً معاصراً من مظاهر العنصرية. واسمحوا لي بأن أقول بوضوح إنها تنم عن تدبير اقتصادي سيئ وسياسة خطيرة. إن اتجاه التمييز الحالي الذي لُوحظ ووُثِّق فيما يتصل بهجرة المسلمين واندماجهم في أوروبا ينذر بالسوء، كما تنذر آثاره بالسوء. ذلك أنه ينتج عنه خرقٌ لجميع حقوق الإنسان، وليس لحق واحد أو اثنين منها. وفي تطور أشد خطورة، تُستخدم الإسلاموفوبيا باعتبارها أداة من أدوات السياسة الانتخابية. وهذا الاتجاه يجب أن يتوقف وينبغي أن تُولى لذلك الأولوية، لأن من شأنه أن يؤدي إلى تنافس يبعدنا عن العالم المتعدد الثقافات الذي نتطلع إليه جميعاً. وفي محاولة للتعامل مع هذا الوضع، دعوت إلى مصالحة تاريخية بين الإسلام والمسيحية على غرار المصالحة الناجحة التي تمت بين المسيحية واليهودية في العقد السادس من القرن العشرين. ولقد آن الأوان لكي نفعل الشيء نفسه بين المسيحية والإسلام. وما أقترحه ليس تمريناً لاهوتياً ، وإنما عملاً يُرمَى منه إلى تهيئة بيئة من الوئام والتفاهم والاحترام المتبادل والشعور بالعيش المشترك في تناغم وسلام. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إن المواضيع ذات النطاق الواسع المتصلة بالهجرة في عالم اليوم لا يمكن الاستهانة بها. إنها مسائل خطيرة تستدعي دراسة جدية، وهي مرشحة إلى أن تسبب للمجتمع الدولي أزمات كبرى. وإنني أعتقد، في الواقع، أن من أخطر التهديدات التي تواجه السلم وأكبر التحديات للأمن في عصرنا هذا تنامي الكراهية والتعصب إزاء التنوع الديني والثقافي. وكما قال الوزير البريطاني المعني بشؤون أوروبا سابقاً دينيس ماكشين في مقال له نشر في مجلة نيوزويك بتاريخ 26 أبريل 2010 : "لقد قامت في أوروبا سياسة جديدة من عدم التسامح ولا أحد يعرف كيف يعالجها". وإنني لآخذ تحذير السيد ماكشين مأخذ الجد. ويبدو أن ارتفاع شعبية أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ومقتهم الذي لا يمكن تفسيره للإسلام والمسلمين يستعدي عامة الناس على المهاجرين المسلمين. ويذكرنا هذا باليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة في بداية العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، إذ اضطُر العديد منهم إلى ترك هويتهم الأصلية واتخاذ أسماء أنجلوسكسونية لتجنب معاداة السامية التي كانت سائدة. وإنني أخشى أن يواجه المسلمون نفس الوضع نظراً لتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا. لقد أدت نتائج استفتاء التاسع والعشرين من نوفمبر 2009 في سويسرا بشأن حظر بناء مآذن المساجد في ذلك البلد إلى إضفاء الصبغة الدستورية والشرعية على الإسلاموفوبيا. ويؤكد كلامي ومخاوفي ما جاء في مقال نشره في إحدى الصحف السويسرية في الشهر الماضي حزبُ الشعب السويسري الذي يُعرف أيضاً بـ SVP أو UDC، يدعو فيه المهاجرين إلى سويسرا أن يحرروا التزاما خطياً بالاندماج في المجتمع السويسري من خلال التخلي عن العديد من القيم الثقافية والممارسات الدينية. وإن مما يبعث على الاطمئنان أن هذه الأمور تشغل أيضاً بال مؤسسات أوروبية ذات أهمية. وأود أن أشير في هذا المقام إلى ثلاث فقرات من القرار الأخير رقم 1743 الذي اعتمدته الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي في 23 يونيو 2010 بشأن هذا الموضوع: تنص الفقرة 9 من القرار المذكور على ما يلي: "تدعو الجمعية الدول الأعضاء إلى معالجة فعالة لمسألة الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي للمسلمين وللأقليات الأخرى في أوروبا، وحمايتهم من التمييز الذي يواجهونه كل يوم، وضمان لجوئهم بسهولة أكبر إلى القانون عندما تنتهك حقوقهم". وتنص الفقرة 12 منه على ما يلي: "تستنكر الجمعية استغلال عدد متزايد من الأحزاب السياسية في أوروبا للخوف من الإسلام وتشجيعها عليه، وتنظيمها لحملات سياسية تروج للصور النمطية السلبية للمسلمين في أوروبا وغالباً ما تساوي بين الإسلام والتطرف. إن من غير المقبول أن يتم التحريض على التعصب ضد المسلمين، بل وعلى كراهيتهم أحياناً". أما الفقرة 13 منه فتنص على ما يلي: "كما تبقى الجمعية منشغلة بالسياسات والممارسات – التي تقوم بها السلطات الوطنية والإقليمية والمحلية – والتي تميز ضد المسلمين، وبالخطر الذي ينطوي عليه سوء استعمال الاقتراعات والمبادرات والاستفتاءات الشعبية لإضفاء الشرعية على القيود التي تفرض على الحق في الحرية والتدين والتعبير، وهي قيود تحظرها المادتان 9 و10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي هذا السياق، فإن الجمعية قلقة بصفة خاصة من الاستفتاء الأخير الذي نُظم في سويسرا، وتحث السلطات السويسرية على اتخاذ قرار رسمي بتعليق العمل بالحظر العام على بناء مآذن المساجد وإلغائه في أقرب وقت ممكن". واسمحوا لي أن أضيف أنه لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي، مستسلمين لليأس والعجز، وأن نسمح لأعداء التنوع الثقافي والتفاهم بين المجتمعات بفرض إرادتهم. ولا يمكننا أن نغفل حقوق المهاجرين وأن نسمح بأن تُسلب منهم هوياتهم الفردية والثقافية، وذلك لأنهم بشر وينبغي أن يعاملوا معاملة إنسانية. وينبغي على الجميع أن يحترم ويلتزم بأحكام الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم التي أقرتها الجمعية العامة بموجب القرار رقم 45/158 بتاريخ 18 ديسمبر 1990؛ والاتفاقية الأوروبية الخاصة بالوضع القانوني للعمال المهاجرين لعام 1977؛ وإعلان رابطة أمم جنوب شرق آسيا الخاص بحماية وتعزيز حقوق العمال المهاجرين لعام 2007 وغير ذلك من الصكوك الدولية التي تدعم الجانب الإنساني للعمال وتحمي حقوقهم الأساسية وهويتهم الثقافية. حضرات المشاركين الموقرين، لقد سعيت جاهداً، بصفتي أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أن أبني جسوراً من خلال دعم حوار الثقافات والحث عليه. وقد عرضنا وجهة نظرنا في الأمم المتحدة وفي تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة والمجلس الأوروبي وفي منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وفي سائر المؤسسات. وإنني أعتقد جازماً أن على جميع الجهات المعنية أن تتحد لبناء ثقافة التسامح والسلم والتفاهم. ولقد شددت في مداولاتي ومحادثاتي مع قادة الحكومات على أن قضية حوار الثقافات والتفاهم بين الثقافات يجب أن تعالج في القواعد الشعبية. ويمكن أن تكون دعوتي إلى مصالحة تاريخية بين الإسلام والمسيحية، التي أشرت إليها آنفاً، أداة بناءة لتحقيق ثقافة التسامح الديني والتفاهم. وإن منظمة المؤتمر الإسلامي بصدد الإعداد لمؤتمر عن هذا الموضوع في مستهل العام المقبل، وسنكون سعداء بأن تكون المشاركة فعالة في هذا المؤتمر. وأود أن أختتم محاضرتي هذه لأفتح المجال لكم لإبداء آرائكم ولتبادل وجهات النظر. ولكن قبل ذلك، أود أن أدعو هذا الجمع إلى التفكير بجدية في سؤالين اثنين: هل هنالك بديل لعالم التنوع الثقافي؟ وهل نحن مستعدون لأن نترك للأجيال المقبلة عالماً من الاضطرابات والكراهية إن نحن عجزنا عن إقامة ثقافة قوامها السلم والوئام بين المجتمعات؟ لا أعتقد ذلك. إن المسألة التي نجتمع هنا اليوم لمناقشتها لها جذور في الماضي، وتواجهنا في حاضرنا ولها ارتباط وثيق بمستقبلنا المشترك، وتؤكد أهمية بناء الجسور. ولكن علينا أن نتجاوز عبارات حسن النية والدعوات التي تصدر في المناسبات لحوار الثقافات وأن نولي الأهمية للدبلوماسية الثقافية. وينبغي أن تعطى الأهمية في هذا الصدد للعمل المتعدد الأطراف. وإن إقامة منتديات من هذا القبيل أمر من الأهمية بمكان، وإن لم نفعل فإننا نكون قد تركنا المجال فارغاً ليملأه الأصوليون ويعملوا وفقاً لأجندتهم الخاصة. ونحن بحاجة في السباق نحو مجتمع المعرفة في القرية الكونية إلى عقد اجتماعي جديد أقترح أن يشمل حوكمة العولمة؛ والالتزام المستدام والبناء والهادف بجميع القضايا بما في ذلك الهجرة؛ والتنوع الثقافي؛ ووضع قواعد ترمي إلى ضمان احترام حقوق الإنسان للجميع دون تمييز. وإن منظمة المؤتمر الإسلامي، ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، وبدولها السبع والخمسين، لديها الاستعداد والرغبة في أن تكون شريكاً موثوقاً في هذا المسعى بعقل متفتح وإيجابي. أشكركم جميعاً على حسن انتباهكم.

بيانات أخرى

No press releases assigned to this case yet.

مؤتمر بالفيديو لبحث آثار جائحة كورونا على جامعات منظمة التعاون الإسلامي


صندوق التضامن الإسلامي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي يسلم الدفعة الأولى من الدول الأعضاء الأقل نموا منحة مالية عاجلة لمواجهة تداعيات كورونا


العثيمين: وكالات الأنباء في دول "التعاون الإسلامي" تدحض الأخبار الزائفة في جائحة كورونا


مواصلة لجهود المنظمة في مواجهة جائحة كورونا المستجد صندوق التضامن الإسلامي يشرع في إجراءات تقديم منحة مالية عاجلة للدول الأعضاء الأقل نموا


البيان الختامي للاجتماع الطارئ الافتراضي للجنة التنفيذية لمنظمة التعاون الإسلامي المعقود على مستوى وزراء الخارجية حول الآثار المترتبة عن جائحة مرض كورونا المستجد (كوفيد-19) والاستجابة المشتركة لها


وزراء خارجية اللجنة التنفيذية: تعزيز الإجراءات الوطنية لدول "التعاون الإسلامي" للتخفيف من وطأة تداعيات وباء كورونا المستجد


مجمع الفقه التابع لمنظمة التعاون الإسلامي يصدر توصيات ندوة "فيروس كورونا المستجد وما يتعلق به من معالجات طبية وأحكام شرعية"


منظمة التعاون الإسلامي ترفض استهداف المسلمين من طرف بعض الأوساط في الهند في ظل ازمة جائحة كورونا


العثيمين يدعو إلى اللجوء لأحكام فقه النوازل وحفظ النفس في محاربة وباء كورونا المستجد


العثيمين يخاطب ندوة مجمع الفقه الإسلامي الدولي حول الأحكام المتعلقة بانتشار جائحة كورونا


البيان الصادر عن الاجتماع الطارئ للجنة التوجيهية لمنظمة التعاون الإسلامي المعنية بالصحة بشأن جائحة كورونا


العثيمين يدعو الاجتماع الافتراضي بشأن كورونا المستجد للعمل الجماعي في مواجهة الجائحة


كتاب اليوبيل الذهبي لمنظمة التعاون الإسلامي

المؤتمر الدولي للعلماء المسلمين حول السلم والأمن في أفغانستان